سورة النور - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}
مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: علموا نساءكم سورة النور. وقالت عائشة رضي الله عنها: «لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور والغزل». {وفرضناها} قرئ بتخفيف الراء، أي فرضنا عليكم وعلى من بعدكم ما فيها من الأحكام. وبالتشديد: أي أنزلنا فيها فرائض مختلفة. وقرأ أبو عمرو: {وفرضناها} بالتشديد أي قطعناها في الانزال نجما نجما. والفرض القطع، ومنه فرضة القوس. وفرائض الميراث وفرض النفقة. وعنه أيضا: {فرضناها} فصلناها وبيناها.
وقيل: هو على التكثير، لكثرة ما فيها من الفرائض. والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة. قال زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقد مضى في مقدمة الكتاب القول فيها. وقرى: {سُورَةٌ} بالرفع على أنها مبتدأ وخبرها {أَنْزَلْناها}، قاله أبو عبيدة والأخفش.
وقال الزجاج والفراء والمبرد: {سُورَةٌ} بالرفع لأنها خبر الابتداء، لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع، أي هذه سورة. ويحتمل أن يكون قوله: {سُورَةٌ} ابتداء وما بعدها صفة لها أخرجتها عن حد النكرة المحضة فحسن الابتداء لذلك، ويكون الخبر في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي}. وقرى {سورة} بالنصب، على تقدير أنزلنا سورة أنزلناها.
وقال الشاعر:
والذئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أو تكون منصوبة بإضمار فعل أي أنل سورة.
وقال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من المكنى يجوز أن يتقدم عليه.


{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}
فيه اثنان وعشرون مسألة: الأولى: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع، مثل اسم السرقة والقتل. وهو اسم لوطي الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها. وإن شئت قلت: هو إدخال فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا، فإذا كان ذلك وجب الحد. وقد مضى الكلام في حد الزنى وحقيقته وما للعلماء في ذلك. وهذه الآية ناسخة لأية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق.
الثانية: قوله تعالى: {مِائَةَ جَلْدَةٍ} هذا حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة. وثبت بألسنة تغريب عام، على الخلاف في ذلك. وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} [النساء: 25] وهذا في الامة، ثم العبد في معناها. وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون الجلد. ومن العلماء من يقول: يجلد مائة ثم يرجم. وقد مضى هذا كله ممهدا في النساء فأغنى عن إعادته، والحمد لله.
الثالثة: قرأ الجمهور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي {الزانية} بالنصب، وهو أوجه عند سيبويه، لأنه عنده كقولك: زيدا اضرب. ووجه الرفع عنده:
خبر ابتدأ، وتقديره: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني. وأجمع الناس على الرفع وإن كان القياس عند سيبويه النصب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه، والخبر في قوله: {فَاجْلِدُوا} لان المعنى: الزانية والزاني مجلودان بحكم الله وهو قول جيد، وهو قول أكثر النحاة. وإن شئت قدرت الخبر: ينبغي أن يجلدا. وقرأ ابن مسعود {والزان} بغير ياء.
الرابعة: ذكر الله سبحانه وتعالى الذكر والأنثى، والزاني كان يكفى منهما، فقيل: ذكرهما للتأكيد كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} [المائدة: 38]. ويحتمل أن يكون ذكرهما هنا لئلا يظن ظان أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حد، فذكرها رفعا لهذا الاشكال الذي أوقع جماعة من العلماء منهم الشافعي. فقالوا: لا كفارة على المرأة في الوطي في رمضان، لأنه قال: جامعت أهلي في نهار رمضان، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كفر}. فأمره بالكفارة، والمرأة ليس بمجامعه ولا واطئة.
الخامسة: قدمت {الزَّانِيَةُ} في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش، وكان لا ماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك.
وقيل: لان الزنى في النساء أعر وهو لأجل الحبل أضر.
وقيل: لان الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب، فصدرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا واهتماما.
السادسة: الالف واللام في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} للجنس، وذلك يعطى أنها عامة في جميع الزناة. ومن قال بالجلد مع الرجم قال: السنة جاءت بزيادة حكم فيقام مع الجلد. وهو قول إسحاق بن راهويه والحسن بن أبى الحسن، وفعله علي بن أبى طالب رضي الله عنه بشراحة، وقد مضى في النساء بيانه.
وقال الجمهور: هي خاصة في البكرين، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها.
السابعة: نص الله سبحانه وتعالى على ما يجب على الزانيين إذا شهد بذلك عليهما على ما يأتي وأجمع العلماء على القول به. واختلفوا فيما يجب على الرجل يوجد مع المرأة في ثوب واحد، فقال إسحاق بن راهويه: يضرب كل واحد منهما مائة جلدة.
وروى ذلك عن عمر وعلى، وليس يثبت ذلك عنهما.
وقال عطاء وسفيان الثوري: يؤدبان. وبه قال مالك وأحمد، على قدر مذاهبهم في الأدب. قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وجد على هذه الحال الأدب. وقد مضى في هود اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده.
الثامنة: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والامر مضارع للشرط.
وقال المبرد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء، وهكذا {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}. [المائدة: 38].
التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الامر الامام ومن ناب منابه. وزاد مالك والشافعي: السادة في العبيد. قال الشافعي: في كل جلد وقطع.
وقال مالك: في الجلد دون القطع.
وقيل: الخطاب للمسلمين، لان إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الامام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب. والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين. لا شديدا ولا لينا.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوط، فأتى بسوط مكسور، فقال: «فوق هذا» فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: «دون هذا» فأتى بسوط قد ركب به، ولان. فأمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجلد... الحديث. قال أبو عمر: هكذا روى الحديث مرسلا جميع رواة الموطأ ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى ابن أبى كثير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله سواء. وقد تقدم في المائدة ضرب عمر قدامة في الخمر بسوط تام. يريد وسطا.
الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب.
وقال الأوزاعي: الامام مخير إن شاء جرد وإن شاء ترك.
وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد ولكن يترك عليه قميص. قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الامة تجريد ولا مد، وبه قال الثوري.
الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما، ولا يجزى عنده إلا في الظهر. وأصحاب الرأى والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف، وهو قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه.
وقال الليث بن سعد وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه. وحكاه المهدوي في التحصيل عن مالك. وينزع عنه الحشو والفرو.
وقال الشافعي: إن كان مده صلاحا مد.
الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود، فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير.
وقال الشافعي وأصحابه: يتقى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء، وروى عن على. وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى. قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل. واختلفوا في ضرب الرأس فقال الجمهور: يتقى الرأس.
وقال أبو يوسف: يضرب الرأس.
وروى عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس. وضرب عمر رضي الله عنه صبيغا في رأسه وكان تعزيرا لا حدا. ومن حجة مالك: ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: «البينة وإلا حد في ظهرك» وسيأتي.
الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يبضع، ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه. وبه قال الجمهور، وهو قول على وابن مسعود رضي الله عنهما. وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد فأتي بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه. وأتي رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدوى فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربا شديدا فقال: قتلت الرجل! كم ضربته؟ فقال ستين، فقال: أقص عنه بعشرين. قال أبو عبيدة قوله: «أقص عنه بعشرين» يقول: اجعل شدة هذا الضرب الذي ضربته قصاصا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين.
وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف. وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربا وهى: الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه والليت بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء ضرب غير مبرح، ضرب بين ضربين. وهو قول الشافعي رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف.
وقال الثوري: ضرب الزنى أشد من ضرب القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الخمر. احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات، ولم يرد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له. احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربا أشد منه في الزنى. احتج الثوري بأن الزنى لما كان أكثر عددا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية. وكذلك الخمر، لأنه لم يثبت الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوى قوة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة: الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الامام لذلك. وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم. وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن. روى الصحيح عن حضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان ابن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان، أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا على قم فاجلده، فقال على: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها «فكأنه وجد عليه» فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، فجلده وعلى يعد... الحديث. وقد تقدم في المائدة. فانظر قول عثمان للإمام على: قم فاجلده.
السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة- على ما تقدم في المائدة- فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك كله. قال ابن العربي: وهذا ما لم يتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه، فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد لأجل زيادة الذنب. وقد أتي عمر بسكران في رمضان فضربه مائة، ثمانين حد الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر. فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات. وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة، لمات كمدا ولم يجالس أحدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قلت: ولهذا المعنى- والله أعلم- زيد في حد الخمر حتى انتهى إلى ثمانين.
وروى الدارقطني حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: «رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتى بسكران، قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن عنده فضربوه بما في أيديهم. وقال: وحثا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه التراب. قال: ثم أتى أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال: فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر! وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم. فقال على: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون، قال فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، قال: وجلد عثمان أيضا ثمانين وأربعين». ومن هذا المعنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. في رواية: «لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم».
وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مسعر عن عطاء بن أبى مروان أن عليا ضرب النجاشي في الخمر مائة جلدة، ذكره أبو عمرو ولم يذكر سببه.
الثامنة عشر- قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقة على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع، وهذا قول جماعة أهل التفسير.
وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: {لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ} قالوا:
في الضرب والجلد.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ هذه الآية. والرأفة أرق الرحمة. وقرى: {رأفة} بفتح الالف على وزن فعلة. وقرى: {رآفة} على وزن فعالة، ثلاث لغات، وهى كلها مصادر، أشهرها الأولى، من رءوف إذا رق ورحم. ويقال: رأفة ورآفة، مثل كأبة وكآبة. وقد رافت به ورؤفت به. والرءوف من صفات الله تعالى: العطوف الرحيم.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: أي في حكم الله، كما قال تعالى: {ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] أي في حكمه.
وقيل: {فِي دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. وهذا كما تقول لرجل تحضه: إن كنت رجلا فافعل كذا! أي هذه أفعال الرجال. العشرون: قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قيل: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب. قال مجاهد: رجل فما فوقه إلى ألف.
وقال ابن زيد: لا بد من حضور أربعة قياسا على الشهادة على الزنى، وأن هذا باب منه، وهو قول مالك والليث والشافعي.
وقال عكرمة وعطاء: لا بد من اثنين، وهذا مشهور قول مالك، فرآها موضع شهادة.
وقال الزهري: ثلاثة، لأنه أقل الجمع. الحسن: واحد فصاعدا، وعنه عشرة. الربيع: ما زاد على الثلاثة. وحجة مجاهد قوله تعالى: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وقوله: {وَإِنْ طائِفَتانِ} [الحجرات: 9]، ونزلت في تقاتل رجلين، فكذلك قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. والواحد يسمى طائفة إلى الالف، وقاله ابن عباس وإبراهيم. وأمر أبو برزة الأسلمي بجارية له قد زنت وولدت فألقى عليها ثوبا، وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربة غير مبرح ولا خفيف لكن مؤلم، ودعا جماعة ثم تلا: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
الحادية والعشرون: اختلف في المراد بحضور الجماعة. هل المقصود بها الأغلاط على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس، وأن ذلك يدع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله، ويشيع حديثه فيعتبر به من بعده، أو الدعاء لهما بالتوبة والرحمة، قولان للعلماء.
الثانية والعشرون: روى عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال ثلاثا في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما اللواتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما اللواتي في الآخرة فيوجب السخط وسوء الحساب والخلود في النار». وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أعمال أمتي تعرض على كل جمعة مرتين فاشتد غضب الله على الزناة». وعن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله على أمتي فغفر لكل مؤمن لا يشرك بالله شيئا إلا خمسة ساحرا وكاهنا وعاقا لوالديه ومدمن خمر ومصرا على الزنى».


{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل: الأول- أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنى وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين. واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ. ويريد بقوله: {لا يَنْكِحُ} أي لا يطأ، فيكون النكاح بمعنى الجماع. وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنى، فالمعنى: الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين، أو من هي أحسن منها من المشركات. وقد روى عن ابن عباس وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطي. وأنكر ذلك الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج. وليس كما قال، وفي القرآن {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ 230} [البقرة: 230] وقد بينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بمعنى الوطي، وقد تقدم في البقرة. وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، ولكن غير مخلص ولا مكمل. وحكاه الخطابي عن ابن عباس، وأن معناه الوطي، أي لا يكون زنى إلا بزانية، ويفيد أنه زنى في الجهتين، فهذا قول.
الثاني- ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد ابن أبى مرثد كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها عناق وكانت صديقته، قال: فجئت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أنكح عناق؟ قال: فسكت عنى، فنزلت: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، فدعاني فقرأها على وقال: «لا تنكحها». لفظ أبى داود، وحديث الترمذي أكمل. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
الثالث- أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا أستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نكاح امرأة يقال لها أم مهزول وكانت من بغايا الزانيات، وشرطت أن تنفق عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، قاله عمرو بن العاصي ومجاهد.
الرابع- أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ولا عشائر فنزلوا صفة المسجد وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور، مخاصيب بالكسوة والطعام، فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن، فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك، قاله ابن أبى صالح.
الخامس- ذكره الزجاج وغيره عن الحسن، وذلك أنه قال: المراد الزاني المحدود والزانية المحدودة، قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة.
وقال إبراهيم النخعي نحوه.
وفي مصنف أبى داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله».
وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق على رضي الله عنه بينهما. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك، وعلى أي أصل يقاس من الشريعة! قلت- وحكى هذا القول الكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية. قال الكيا: وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك، وهذا في غاية البعد، وهو خروج عن الإسلام بالكلية، وربما قال هؤلاء إن الآية منسوخة في المشرك خاص دون الزانية.
السادس: أنها منسوخة، روى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال: نسخت هذه الآية التي بعدها {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} [النور: 32]، وقاله ابن عمرو، قال: دخلت الزانية في أيامى المسلمين. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء. واهل الفتيا يقولون: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وهو قول ابن عمر وسالم وجابر بن زيد وعطاء وطاوس ومالك بن أنس، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه.
وقال الشافعي: القول فيها كما قال سعيد بن المسيب، إن شاء الله هي منسوخة. قال ابن عطية: وذكر الاشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحى. قال ابن العربي: والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطي كما قال ابن عباس أو العقد، فإن أريد به الوطي فإن معناه: لا يكون زنى إلا بزانية، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة من الجهتين، ويكون تقدير الآية: وطئ الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك، وهذا يؤثر عن ابن عباس، وهو معنى صحيح.
فإن قيل: فإذا زنى بالغ بصبية، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى، فهذا زان نكح غير زانية، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم. قلنا: هو زنى من كل جهة، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه. وإن أريد به العقد كان معناه: أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك. وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا.
وقيل: ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان، فكأنه قال: لا ينكح الزانية إلا زان، فقلب الكلام، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني.
الثانية: في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح. وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته، وهذا على أن الآية منسوخة. وقيل إنها محكمة. وسيأتي.
الثالثة: روى أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبى بكر رضي الله عنه فجلدهما مائة جلدة، ثم زوج أحدهما من الأخر مكانه، ونفاهما سنة.
وروى مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم.
وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمرة ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمرة، فما سرق حرام وما اشترى حلال. وبهذا أخذ الشافعي وأبو حنيفة، ورأوا أن الماء لا حرمة له.
وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا. وبهذا أخذ مالك رضي الله عنه، فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، لان النكاح له حرمة، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح، فيختلط الحرام بالحلال، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.
الرابعة: قال ابن خويز منداد: من كان معروفا بالزنى أو بغيره من الفسوق معلنا به فتزوج إلى أهل بيت ستر وغرهم من نفسه فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه، وذلك كعيب من العيوب، واحتج بقوله عليه السلام: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله». قال ابن خويز منداد. وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره، فأما من لم يشتهر بالفسق فلا.
الخامسة: قال قوم من المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وعند هؤلاء: من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها.
وقال قوم من هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح.
السادسة: {وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي نكاح أولئك البغايا، فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد عليه السلام، ومن أشهرهن عناق.
السابعة: حرم الله تعالى الزنى في كتابه، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد. وهذا قول مالك والشافعي وأبى ثور.
وقال أصحاب الرأى في الرجل المسلم إذا كان في دار الحارث بأمان وزني هنالك ثم خرج لم يحد. قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحد على ظاهر قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8